في أعماق المجتمعات المستضعَفة، لا تُقاس العبودية فقط بسلاسل الحديد، بل تُقاس أيضًا بصمت الإرادة، وكسل الضمير، وانسحاب الإنسان من مسؤوليته أمام ذاته.

ولعلّ من أشد ما يُبتلى به مجتمع كمجتمعنا المصري، هو أن الغالبية ـ أفرادًا وقادة ـ لا يملكون القدرة على إلزام أنفسهم بما يصدر من داخلهم.
فحين تتحدث إرادتهم العاقلة، أو يهمس ضميرهم المستنير بحكمٍ أو توجيه، يختارون الصمت. ليس لأنهم لا يفقهون، بل لأنهم يرهبون ألم التنفيذ، ويكرهون مشقة الالتزام.

الشخصية الخالدة هي تلك التي لا تخون إرادتها الحرة أو قراراتها الداخلية، وانتصرت على نفسها أولًا.
لأن تطويع نفسها على قبول حكم ضميرها، وتنفيذه، كان بمثابة تصريح منها بأن سلطان ضميرها أعلى سلطة من أي حاكم!

لقد أَلِفنا الانقياد للأوامر الآتية من الأعلى، من سلطةٍ أو نظامٍ أو مجتمع، فنُطوِّع أجسادنا ونُسكت عقولنا بحجة “هكذا قيل لنا”.
لكن حين يأتي الدور على الأحكام النابعة من داخلنا – من وعينا، من شرفنا النفسي – نهرب منها، ونتجاهلها، كي لا نتحمل عبء الطاعة لما نفرضه على أنفسنا.

وهكذا، تتحول النفوس إلى عبيدٍ لطُغيان خارجي، لأنهم أعلوا كُرهًا حكم الآخرين عليهم، ولأنهم لم يتعلموا أولًا كيف يكونوا سادةً على أنفسهم.

هذه ليست مشكلة أخلاقية فحسب، بل مأساة حضارية.
لأن الأمم لا تنهض بمُطيعين لغيرهم… بل بناسٍ يملكون القرار، ويخضعون له، لأنهم أحرارٌ من الداخل.

🔹 ما هو القرار الذاتي؟

القرار الذاتي ليس مجرد اختيار بين بديلين، ولا لحظة حماسية تدفعك لفعل عابر.
بل هو مرآة سيادتك على نفسك، وإعلانك أنك موجودٌ ككائن حر، له وعيٌ مستقل، وإرادةٌ تصدر من الداخل، لا تُدار من الخارج.

هو اللحظة التي تتجلّى فيها الإنسانية الحقة، حين لا تنتظر أمرًا من أحد، ولا تخشى لومًا من جمع، بل تنظر إلى ذاتك في مرآة الضمير، وتقول لها: “أنتِ المسؤولة… وأنتِ القائدة”.

القرار الذاتي هو الفارق العميق بين من يعيش رد فعلٍ لغيره، ومن يعيش فعلًا أصيلًا ينبع من داخله.

🔸 كيف يُبنى القرار الذاتي؟

القرار الذاتي لا ينبُت من فراغ، بل يُزرَع في تربة مهيأة، ثم يُروى بالصدق، ويُنقى من الخوف، ويُسقى بالمسؤولية.

1. بالتصالح مع الذات

الإنسان الذي يُعادي نفسه، أو يخجل من ماضيه، أو يُنكر ضعفه، لن يصدر عنه قرارٌ صادق.
التصالح مع الذات لا يعني التراخي، بل يعني أنك تقف أمام حقيقتك عاريًا، دون إنكار ولا تجميل، ثم تقول:
“نعم، أنا أخطأت… ولكني الآن أختار أن أكون أفضل.”

2. ببناء ضمير يقظ

الضمير ليس صوتًا خافتًا يظهر فقط في الأزمات، بل هو مرشدٌ داخلي يجب تنشيطه، وتغذيته بالقيم، والحق، والمراجعة المستمرة.

كل قرار لا يمرّ على ضمير حي، هو قرار ناقص.
والناس لا تُعلي من شأن من يتقن اتخاذ القرار فقط، بل من يتقنه بضمير.

3. بممارسة “الاختيار” يوميًا

اتخاذ القرار مهارة تُكتسب بالممارسة، فابدأ باحترام قراراتك اليومية:

  • أن تلتزم بموعدٍ وضعته لنفسك.
  • أن تُنهي عملك رغم التعب.
  • أن تقول “لا” حين يكون قولها واجبًا.

كل قرار صغير يُقرّبك من سيادة القرار الكبير.

🔸 لماذا يُخيفنا القرار الذاتي؟

لأن القرار الذاتي لا يحتمل الأعذار.
حين تختار بإرادتك، لا يمكنك أن تلوم أحدًا. لا يمكنك أن تقول: “أجبروني” أو “ظروفي فرضت عليّ”.
أنت المسؤول وحدك… وهذا مرعب للبعض.

ولهذا، نُفضِّل أن نستسلم لتوجيه خارجي، لأنه يحمينا من وخز الضمير لاحقًا.
لكن الحقيقة أن القرار الخارجي، وإن أراحك لحظة، يُطفئ نورك الداخلي إلى الأبد.

🔸 أثر القرار الذاتي في نظرة المجتمع إليك

المجتمع يُحب من يملك رأيًا، ويهاب من يتمسك به، ويحترم من لا يُساوم على ما يراه صوابًا.

هل لاحظت يومًا كيف تتغير نظرة الناس إلى من يقول “أنا قررت”؟
حتى وإن خالفهم، فإنهم يُدركون في أعماقهم أن هذا الشخص سيد نفسه، لا يلتفّ لرضاهم ولا ينكسر لرفضهم.

إن القرار الذاتي يُشكّل حول صاحبه هالة من الثقة، والانضباط، والهيبة.
ويصبح مع الوقت مرجعًا لغيره… لا لأنه يفرض رأيه، بل لأنه أثبت قدرته على قيادة نفسه.

🔸 من العبودية النفسية… إلى السيادة الإنسانية

كل مجتمع لا يعلّم أبناءه كيف يطوِّعون أنفسهم على قراراتهم الذاتية، هو مجتمع يُهيئهم للعبودية.
عبودية التفكير، وعبودية السلوك، وعبودية الطاعة دون وعي.

وفي مصر — ومع الأسف — تشكّل نمط التربية والتعليم والإدارة على كبح الإرادة الفردية.
فالطالب لا يُسأل عن رأيه، وتُفرض عليه الأحكام جبرًا، والموظف يُعاقَب إن فكّر، والطفل يُخاف عليه من “كثرة الأسئلة”، والمرأة تُمنع من أن تختار، والرجل يُلام إن خالف القطيع.

كل هذه المنظومة تُنتج أناسًا يُجيدون الصمت… ويخشون القرار.
لكن النهوض الحقيقي يبدأ حين يُكسر هذا النمط، ويُسمح للضمير أن يتحدث… وللإرادة أن تُنفذ.

🔸 فلنبدأ… من الآن

  • قرّر أن تكون صاحب قرار.
  • قرّر أن تُراجع نفسك بصراحة.
  • قرّر أن تحترم ما يقوله ضميرك ولو خالف الجميع.
  • قرّر أن تواجه تبعات ما تختار، بثقة وشرف.

ولا تنتظر أن تكون الظروف مثالية… فإن القرار الحقيقي لا ينتظر إذن شئ أو أحد.

في الختام

القرار الذي تأخذه على نفسك… هو الحدّ الفاصل بين أن تتسيّد أو أن تُستعبَد.
بين أن تكون إنسانًا حرًا ذا شأن، أو تابعًا لا يُؤبه له.

ولا كرامة بلا قرار.
ولا قرار بلا ضمير.
ولا ضمير بلا صمتٍ يُصغي، ووعيٍ يُبصر، وشجاعةٍ تقول: “أنا المسؤول… وأنا من أختار.”

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *